![]() |
منذ اليوم الأول لإندلاع الحرب المدمرة في قطاع غزة، تزايت يوما بعد يوم النداءات الفلسطينية والدولية المطالبة بوقفها فورا بعد أن حولت مع إستمرارها معاناة الفلسطينيين الإنسانية إلى مأساة شاملة طالت الحجر والبشر، على الجهة الأخرى طالت في عمقها الضمير الإنساني العالمي. كيف لا وقد تجاوزت حدود المعقول، لتصبح اختباراً حقيقياً لمفاهيم العدالة الإنسانية، وميزان القيم الذي طالما تغنت به الأمم المتحدة وعواصم العالم الكبرى.
واقع إنساني مأساوي
فقد كان الدمار في غزة ليس مجرد مشهد على شاشات الأخبار، بل واقع يومي يعيشه أكثر من مليوني إنسان محاصر بين الخوف والجوع والدمار. مستشفيات مهدمة، وبيوت مدمرة، ومخيمات للنازحين لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من الأسر، جميعها عكست حجم الكارثة الإنسانية التي فاقت كل المقاييس والتصورات.
الأطفال حرموا من التعليم، والأمهات ينتظرن بصيص أمل بين الركام، والشيوخ الذين فقدوا بيوتهم وأمنهم، الجميع يصرخون: أوقفوا الحرب.
لحظة فارقة وجهود مضنية
في لحظةٍ انتظرها العالم بشغفٍ وقلق، وُقِّع في العاصمة المصرية القاهرة اتفاقٌ تاريخي لوقف الحرب في قطاع غزة، إستمرت لسنتين من القتال والدمار والمعاناة الإنسانية غير المسبوقة، وقد جاء الاتفاق بعد جولاتٍ معقدة من المفاوضات التي قادتها مصر بمساندة أطرافٍ إقليمية ودولية، ليشكّل نقطة تحول في مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، ومحاولة لإعادة الأمل إلى أرضٍ أنهكتها الحروب المتكررة.
الجهود الدبلوماسية التي يذلتها القيادة الفلسطينية
منذ مطلعها بذلت القيادة الفلسطينية، برئاسة الرئيس محمود عباس، جهوداً جبارة وحثيثة في المحافل الدولية لوقف العدوان ورفع الحصار وطالبت بإطلاق عملية سياسية جادة تؤدي إلى سلام عادل ودائم، ومما لا شك فيه فقد أثمرت هذه الجهود في وقف هذه المقتلة، وبالمقابل أسهمت تحركاتها تعزيز الموقف الفلسطيني مما أفضى الى توسيع دائرة الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، في الأمم المتحدة.
ما بعد الحرب... التحديات القادمة
إن قرار وقف الحرب ليس نهاية المطاف، فهناك طريق طويل ينتظر الجميع لا سيما الفلسطينيين نحو إعادة الإعمار، ولملمة الجراح، واستعادة الثقة بالحياة. سيما وأن إعادة إعمار غزة ليست مهمة هندسية أو اقتصادية فحسب، بل هي أيضاً مشروع وطني وإنساني لإعادة الأمل إلى شعب أنهكته الحروب المتكررة،
مما يتطلب من الجميع وحدة الصف، وتكاتف الجهوظ، في المقابل هناك ضرورة ملحة لوجود إرادة دولية لضمان عدم تكرار هذه المأساة.
الدور المصري... وساطة نزيهة ومسؤولية إقليمية
مرةً أخرى، تؤكد مصر موقعها المحوري في معادلة الأمن الإقليمي، إذ استطاعت عبر أدواتها السياسية وعلاقاتها المتوازنة أن تجمع بين الأطراف في لحظة كانت تبدو فيها المفاوضات مستحيلة.
لم يكن الدور المصري مجرد وساطةٍ تقنية، بل كان موقفًا استراتيجيًا يستند إلى قناعةٍ راسخة بأن استقرار المنطقة يبدأ من استقرار غزة، وأن وقف الحرب ليس مصلحة فلسطينية فحسب، بل ضرورة للأمن القومي العربي بأسره.
وقد نجحت القاهرة في صياغة اتفاق يراه بعض الخبراء والمختصين بأنه متوازن يأخذ في الحسبان الهواجس الأمنية الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه يضمن الحد الأدنى من المطالب الإنسانية والسياسية الفلسطينية.
ملامح الاتفاق وبنوده الأساسية
جاء الاتفاق في إطار خطةٍ تدريجية تنفذ على مراحل، أبرزها:
• وقف شامل ومتزامن لإطلاق النار بين الجانبين، بإشرافٍ مصري وضماناتٍ دولية.
• انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة في قطاع غزة خلال فترة زمنية محددة، مع التزامٍ بوقف أي عمليات عسكرية جوية أو برية.
• تبادل للأسرى والمحتجزين وفق آلية إنسانية تشمل إطلاق عدد من الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن الرهائن لدى المقاومة.
• فتح المعابر وإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية بإشرافٍ مشترك بين مصر والأمم المتحدة.
• بدء مشاورات سياسية لاحقة برعاية مصرية تهدف إلى تثبيت الهدنة وتهيئة الأجواء لإطلاق عملية سلام شاملة.
هذه البنود، رغم بساطتها الظاهرة، تعكس توازنًا دقيقًا بين المتطلبات الأمنية والسياسية والإنسانية، وتُظهر حجم الجهد الذي بُذل خلف الكواليس للوصول إلى صيغةٍ تُرضي جميع الأطراف دون انتصارٍ مطلق لأحد.
أبعاد الاتفاق السياسية والإنسانية
من الناحية السياسية، يمثل اتفاق القاهرة اختبارًا جديدًا لقدرة المجتمع الدولي على ترجمة دعواته إلى أفعال. فقد أثبتت التجارب السابقة أن وقف إطلاق النار لا يكفي إن لم تُتبع بخطواتٍ حقيقية نحو معالجة جذور الصراع، وعلى رأسها إنهاء الاحتلال ورفع الحصار وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة في الحرية والاستقلال.
أما إنسانيًا، فإن هذا الاتفاق يُعد بارقة أملٍ لحوالي مليونَي إنسان يعيشون في ظروفٍ قاسية داخل غزة، حيث تحوّلت الحياة إلى معركةٍ يومية من أجل البقاء. إعادة فتح المعابر، وعودة المستشفيات إلى عملها، ووصول المساعدات، تمثل أولى إشارات الحياة بعد شهورٍ من الظلام والموت.
التحديات أمام التنفيذ
ورغم الأجواء الإيجابية التي رافقت التوقيع، فإن الطريق أمام تنفيذ الاتفاق لا يخلو من العقبات.
أبرز هذه التحديات تكمن في مدى التزام الأطراف ببنود الاتفاق، خصوصًا في ظل انعدام الثقة، وتعدد القوى الميدانية، واختلاف الأجندات الداخلية لكل طرف.
كما أن ملف إعادة الإعمار يشكل تحديًا آخر، إذ يتطلب تمويلًا دوليًا وضماناتٍ أمنية لتأمين المواد والمعدات، إلى جانب آلية شفافة تمنع استغلاله سياسيًا.
ويبقى التحدي الأكبر سياسيًا، وهو ما بعد الهدنة: من سيتولى إدارة غزة؟ وهل سيُفتح الباب أمام مصالحةٍ فلسطينية شاملة أم سيُعاد إنتاج الانقسام القديم بوجوهٍ جديدة؟
خاتمة:
ما بعد التوقيع
إن اتفاق وقف الحرب في غزة، وإن كان خطوةً مهمة على طريق التهدئة، إلا أنه لا يمكن أن يُكتب له النجاح إلا إذا تحوّل إلى مدخلٍ لسلامٍ عادلٍ وشامل، يعيد للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، ويضع حدًا لدائرة الدم التي لم تعرف نهاية منذ عقود.
رأيكم مهم وهو دعم منكم لنا