"الرهان على الزمن"
"ورقة تحليلية"
الكاتب والباحث: عبد المنعم إبراهيم.
في ظل صراع القوى على الساحة الأوكرانية، تميزت المواجهة العسكرية ليس بحدودها الجغرافية، ولا ببعدها العسكري فحسب، بل ببعدها السياسي، والإقتصادي كذلك، وتميزت أيضاً بالتكتلات وأطراف الصراع، وما تمتلكة هذه الأطراف من أدوات ووسائل قتالية، نوعاً وكماً، فقد بات إحتدام الإشتباك على الساحة الأوكرانية على اثر هذه المعادلة إنعكاس لما تمتلكه هذه الأطراف المتصارعة من أدوات، مما دفع كل طرف لإظهار قوته على الأرض، وتمترسه خلف أهدافه، حيث يرى كل طرف بأنه يملك القدرة على الصمود والنصر، مع الرهان على إستنزاف الٱخر، والإطاحة به، تبعاً لما يملكه هذا الطرف أو ذاك من قوة ودعم، لتأتي شواهد ومعطيات العملية العسكرية الروسية على أرض الواقع برياح ما لا تشتهيه سفن الأوكرانيين، وحلفائهم في حلف الناتو والإدارة الأمريكية، هذا التحالف الذي أخطأ في تقديراته حول إمكانات الجانب الروسي، وقدراته، وقللوا من شأنها، وإستهانوا بقوة وصلابة الجيش الروسي، وبما يملكه، وبنوا حساباتهم على أسس إنهياره، تبعاً للدعم المقدم للجيش الأوكراني، وإعتماداً على فكرة إستنزاف المخزون الحربي الروسي، كون العملية العسكرية قد طال أمدها، وبات الجانب الروسي وحيداً أمام قوة الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، التي صبت الدعم على الأوكرانيين صبا.
"وقفة"
صحيح أن موسكو في هذه المعادلة باتت منفردة في مواجهة 23 دولة تقريباً، غالبها متطورة عسكرياً وتكنولوجياً، على رأسها أمريكا، لكن الدب الروسي في ظل هذه المعادلة، تحدى الجميع، وصنع ما لم تشتهيه هذه الأطراف، فقد سطر إنتصارات عسكري متتالية على أكثر من جبهة، ولم تستطيع هذه القوى مجتمعة إجباره على التراجع أو الإنسحاب، بل بقي صامداً، يتصدى لكل هذه المحاولات، فضلاً عن بسط سيطرته على ما يقرب من 20% من الأراضي التي حررها، وأجرى فيها إستفتاء علني، ثم ضمها بمرسوم رئاسي، دون أن تتمكن أيٍ من هذه القوى منع ذلك، أو إعاقته، وقد جاء إعلان الرئيس الروسي بوتين يوم الأربعاء الحرب والأحكام العرفية في المناطق المحررة كإنذار جاد في حال تم إختراق سيادة هذه المناطق، التي باتت جزأ من الجغرافيا الروسية .
لقد إستطاع الجيش الروسي في سياق هذه العملية أن يدمر غالبية الأسلحة الأمريكية والغربية المقدمة للجيش الأوكراني، الذي بات يتساقط تباعاً، فيما تم إستنزاف مخزون الجيش الأوكراني من العتاد والذخائر، وأصبح يقاتل بما يحصل عليه من حلفائة فقط.
* إقتصادياً.
لقد لجأت أمريكا والغرب الى سياسة الحصار الإقتصادي على روسيا، حيث لم يستثنوا وسيلة إلا وإستخدمها لإسقاط المنظومة الإقتصادية الروسية، التي يرى الغرب أن عائداتها تستخدم في تمول العملية العسكرية في أوكرانيا، إلا أن الجانب الروسي كان مستعداً لهذه السيناريوهات إستعداداً فاق توقعات خصومه، بحكم ما تمتلكة روسيا من أرضية وثروات إقتصادية متينة، يعينها على الصمود، ويمنحها فرصة تطوق رقاب الدول الأوروبية، ورهن مصيرها بيدها بما تملكه من مصادر الطاقة ، حتى أصبحت هذه الدول في ظل أزمة الطاقة تترنح بين مطرقة "الحاجة"، وسندان "الضغوط الأمريكية" للتخلي عنها، مما دفع هذه الدول تحت هذه الضغوط الى البحث عن مصادر بديلة عن النفط والغاز الروسيين، ما دفعهم الى الإستعانة بالغاز الأمريكي والنرويجي، إعتقاداً من هذه الدول أنها ستحرر من أزماتها، ومن قبضة روسيا، لتتفاجأ هذه الدول بالكلفة الباهضة لهذه الإمدادات، بأضعاف مضاعفة عن أسعار الطاقة الروسية، ليكتشف هؤلاء الساسة اللعبة الأمريكية الخبيثة، حيث جاء ذلك واضحاً على السنة العديد من المسؤولين بأن النرويج وأمريكا يستغلان حاجات أوروبا لهذه الطاقة، معتبرين ذلك إبتزازاً، وإستغلالاً للظروف، سيما وأن أوروبا مقبلة على فصل الشتاء، فقد دعا الرئيس الفرنسي ماكرون ووزير إقتصاده برونو لومير في وقت سابق أمريكا والنرويج الى الكف عن مضاعفة أسعار الغاز، وكان وزير الاقتصاد الألماني "روبرت هابيك" قد إتهم أمريكا بفرض أسعارا مرتفعة للغاز،،، وقد جاء تحرك الشارع الأوروبي، الرافض لغلاء الأسعار وتدهور المستوى المعيشي، كمن زاد طين الساسة بله، لتظهر إنعكاسات هذه الحالة في شوارع العاصمة الفرنسية باريس، التي شهدت خروج عشرات الٱف المواطنيين الغاضبين إحتجاجاً على غلاء الأسعار، وتدهور أوضاعهم المعيشة، هذه الظاهرة (الإحتجاجات الشعبية) لم ولن تقتصر على فرنسا فقط، بل بدأت صورتها بالظهور في المانيا وبريطانيا، وأسبانيا، ودول أخرى كذلك، ما يُنذرهم بمستقبل مظلم، يتأرجح ما بين التفسخ لكيانات وتكتلات منفصلة على غرار الخروج البريطاني من الإتحاد، وما بين الخروج الأوروبي من العصر الذهبي الى سابق عهود ، فقد أشارت "بلومبرغ"، في هذا السياق أن أوروبا قد تلتحق بالدول النامية في أشارة إلى أزمة الطاقة التي دفعت بعض الدول الأوروبية للتفكير في استئجار محطات كهربائية عائمة، على الشاكلة التي تستخدمها البلدان النامية، مشيرة الى أن شركة تركية تنتج هذه المحطات كانت قد تلقت طلبات من أربعة دول أوروبية لشراء هذه المحطات!.
* سياسياً.
يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي "بايدن" وحزبة الديمقراطي باتوا على مفترق صعب ومصيري، يُنذر بخسارة الديمقراطيين أغلبيتهم في الإنتخابات النصفية القادمة، في ظل فشل إدارة الرئيس بايدن في تغيير مسار العملية العسكرية، وحسمها لصالح أوكرانيا والحلفاء، وتلاشي ٱمال إسقاط المنظومة الإقتصادي الروسية المُغذية لهذه العملية، في هذا السياق، وعلى أثر الفشل الأمريكي الذريع جاءت محاولات بايدن لإنقاذ نفسه بما يمكن إنقاذها للخروج من الأزمة السياسية قبيل الوصول الى الإنتخابات النصفية، ما دفعه للجوء الى ممارسة الضغط على الدول الأساسية المنتجة للنفط (السعودية والإمارات والكويت) لرفع انتاجها، كي يتسنى الخلاص من تداعيات الاسعار المرتفعة،التي تسببت في إلحاق الأضرار الجسيمة على الواقع المعيشي للأمريكان، والتي قد تتسبب في خسارة الحزب الديمقراطي أغلبيته في الكنغرس الأمريكي، وتلحق الضرر بمصيرة شخصياً، وفي ظل حسابات إدارة بايدن، ورهاناتها على الدول المنتجة للنفط، جاء رفض السعودية ودول الخليج الإنصياع لطلب بايدن، وتبعه قرار (أوبك+) بعدم رفع مستوى الإنتاج ليشكل صادمة لإدارة بايدن، وصورة مزعجة عكست فقدان إدارته نفوذها على "اوبك+"، وعلى الحلفاء، ما يعني فشل الديمقراطيين في سياستهم الخارجية، مما فاقم من مستوى التحديات الداخلية التي يواجهها بايدن وحزبه، ما سيكون له انعكاسات سلبية على انتخابات الكونجرس النصفية نوفمبر القادم، ما قد يزيد من حظوظ وفرص الجمهوريين في تلك الإنتخابات .
(مقتطف)
من صحيفة The New York Times الأمريكية:
(((بسبب سياسة بايدن واشنطن فقدت الحليف السعودي، وفشلت في بناء علاقات تحالف معه، وأصبح تأثير بايدن أضعف بكثير مما يريد))).
(زيلينسكي)
فيما يتعلق بمستقبل الرئيس الأوكراني "زيلنيسكي"، فالأصل أن لا يُذكر في معادلة العمالقة، ولكن يمكن القول في ظل عدم إمتلاكه أي خيارات، وكونه مجرد من الصلاحيات، ليس أمامه سوى الإبقاء على مناجاة أمريكا والغرب لإنقاذه من نكساته، وسيبقى مصيره مرهوناً بالعملية العسكرية، وبنتائجها ،وبما تقرره أمريكا والغرب.
(تصعيد نووي)
في الأيام والأسابيع الماضية شهد العالم إرتفاع وتيرة الخطاب بين موسكو من جهة وامريكا والغرب من جهة أخرى، فالرئيس الروسي بوتين من جهته لوح مراراً وتكراراً بإستخدام النووي إذا ما دعت الحاجة ، وقد جاء إختفاء الغواصة النووية الروسية عن الرادارات والمراقبة في هذا السياق لتشكل رعبا لدى الدول الأوروبية وعلى رأسها الجانب الأمريكي، فقد شكل إختفاء الغواصة رسائل ترهيب روسية عالية المستوى ، مقابل هذا قد صعد الناتو والإدارة الأمريكية من لهجتهم تجاه موسكو، معلتين على لسان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي"ينس ستولتنبرغ"، عن إجراء "تدريبات الردع النووي لحلف الناتو.
على الرغم من هذه اللهجة الحادة بين الطرفين، سيبقى هذا من وجهة نظري مجرد تصعيد خطابي ليس إلا، ورسائل وعيد بين الطرفين، لن ترتقي الى درجة المواجهة النووية الفعلية، ذلك أن إستخدام هذا النوع من السلاح يعني الدمار الشامل، فهذا النوع من الأسلحة لا يستخدم إلا في الأوقات الحرجة والمصيرية، التي تتعلق بأمن ومصير الدولة، ومع ذلك سيبقى ما نسمعه في نبرة الفرقاء بحسب رأيي حبيس المٱلات والتطورات.
(أوروبا)
ستشهد أوروبا على وقع هذه الحالة في الفترة المقبلة وضعاً معيشياً وإقتصادياً صعباً في ظل هذه المعادلة الخطيرة، ستتسبب في ظهور إضطرابات وإحتجاجات شعبية في مدن عديدة، على وقع نقصان الطاقة الكافية للتدفئة، والإنارة، وللتصنيع، ولمجالات حيوية أخرى في الدولة، في الوقت الذي تقف فيه هذه الدول على عتبة شتاء قارس، تبعاً لذلك ستزداد الإحتجاجات الرافضة للوضع المعيشي، ما قد يتسبب في إستقالات لبعض الساسة والنخب، تماماً على شاكلة ما حدث اليوم الخميس في لندن، حيث قدمت رئيسة وزراء بريطانيا "ليز تراس"إستقالتها من منصبها بسبب الخلافات داخل حكومتها فيما يتعلق بسبل مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بريطانيا ،،، وستتعزز بحسب تقديري هذه ظاهرة الإنشقاقات بين الساسة والكيانات، حيث أن أحد أشكال هذه الإنشقاقات والخلافات حدث اليوم الخميس، عندما وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سلوك ألمانيا في أزمة الطاقة التي تشهدها أوروبا حاليا، واتهمها بالعمل على عزل نفسها.
من المؤكد أن مثل هذه الحالات ستعزز موقف روسيا، ويدفعها للرهان على _ أولاً: دخول فصل الشتاء، حيث الحاجة الأوروبية الماسة للطاقة، لتلقن روسيا الدول الاوروبية درساً قاسياً.
ثانياً: الإنتخابات الأمريكية النصفية، حيث الرهان سيكون على خسارة الحزب الديمقراطي لأغلبيته في الكونغرس الأمريكي، ما قد يقلص تحركات الديمقراطيين
،ويُكبل قرارات الرئيس بايدن، فلا يحظى بعد ذلك بفرص كافية في إتخاذ القرارات، سيكون (مقيد)، ما قد تراه موسكو بأنها فرصة لفرض معادلات جديدة في المواجهة .
أخيراً:
فيما لم تصمت أصوات المدافع، ولم تتوقف رائحة البارود بعد في أوكرانيا، وفيما يسعى كل طرف من الأطراف المتحاربة الى تحقيق أهدافه،، من يا ترى سيمتلك القدرة على الصمود والثبات أكثر خلال الفترة القادمة؟ مشهد معقد لا يحكمة إلا المعطيات على الأرض، ولربما تتشكل هذه المعطيات على وقع هاتين الكلمتين (شتاء أوروبا وإنتخابات أمريكا )
يتبع...
تابعنا على هذه الصفحات
👇👇👇👇👇
Facebook
Facebook page
twitter
YouTube
Telegram
رأيكم مهم وهو دعم منكم لنا